وجدتُ نفسي محاطة بكل شيء فجأة، بعد أن كان الفراغ يحتل الجزء الأكبر من محيطي وبعد أن اعتدتُ جدًا على وحدتي البائسة التي أحب، عزلتي الحزينة التي أغوص فيها كبحر عميق مظلم يستقبلني كإحدى أعضاءه السوداء.
لكن ما هذا الآن؟ لماذا تنبتُ الأشجار من ضلعي الشائك، من أين هذه الزهور، هذا الحب، هذه اللطافة! أنا لم أعتد عليها، أنا لست بحاجة لشيء أبيض يعبث بسوادي، لشيء أخضر يعبث بالرماد الذي ألهو به داخلي. سقط كل شيء فجأة في فراغي الممتد مني إلى محيطي، لكَ يا صديق أن تتخيل الزلزلة التي تسبب بها هذا السقوط، إني أتصدع حرفيًا، أخرجُ مني أشياءً أحب، وتدخل -دون رغبةٍ مني- أشياء ليست مألوفة، صدقني، الأمر ليس بيدي. يدي فارغة. لا، أياديَّ قطعت دون أن يقطع الجلد، فبقيت تتدلى من كتفي، متعلقةً هكذا، ثقلًا بلا فائدة. أريد الخروج من هذا الازدحام، هذا الاضطراب اللعين داخلي وفي محيطي. ربما أنت أدركت هذا من قبل، لكنني سأكرر لكَ قولي بصراحة وصدق أكبر، أنا لا أحب التغيير مطلقًا. أنا إنسانٌ ثابت، ذو طريق واحد لا يهتم بنهايته ما دام مستقيمًا ولا يضطره إلى لوي قدميه وظهره وقلبه. لهذا أنا فارغ من الأشياء والأشخاص، فكل شيء يتغير، كل شيء يلوي عنقكَ مائة وثمانين درجة، عذرًا. لكنني لست بومة وحياتي صلدة وصلبة لا تلين لأي تغيير بسيط، لهذا لم أحب أرجوحة المنزل ولا أغير مكونات طعامي ولا أملك الكثير من الأصدقاء، لا أتحمل أن يعبرونني كمن يمر على أغنيةٍ دون أن يسمعها كلها، كلهم يسمعون ويأخذون مني حتى ينتهي العبور، هكذا فعلت أمي حتى رحلت ولم تسمع الأغنية التي بدأتها هيَّ حتى النهاية.
لكن سطوة هذه المشاعر الآن تجبرني أن ألوي كل شيء داخلي لاتجاهات عدة، وأنا -واللعنة على السبب- سئمت من هذا الأمر، لا أريد أن أركض وراء المشاعر السعيدة كطفل أحمق يجري خلف عربة حلوى فارغة ولديه الكثير منها في يديه، لا أريد أيضًا أن أتمسك بأي حلمٍ يبدو من بعيد ملونًا وجميلًا وكل كلمات اللطافة التي يمكن لعقلك أن يلي الصفات السابقة، لا أريد أيضًا أن أكون فخورةً بنفسي، أنا لم أفعل ذلك مطلقًا، فأي سبب غبي هذا يجعلني أنفخ قلبي وعقلي وأحشر اسمي في قوائم العظماء المبتدئين الذين سيكونون -إن أرادوا ذلك- ممن يتركون أجزاء منهم في الأرض بعد أن يرحلوا للسماء، أجزاء يصلي أسفلها طلبة العلم أو المراهقين الشغوفين للنضوج، لفهم أنفسهم. كلا. وألف لا، لا أريد إلا أن أتعفن في هذه الغرفة الضيقة، أداعب بؤسي، وحشي الصغير المدلل الذي لا يتغير مطلقًا، أود أن أقف لأعود للنظر إلى الجدار، للثبات القاتم. لا هذه الألون التي أتلفظ بها وألفظها حين أكون هناك، في منتصف العالم، أمارس إنسانيةً متلونة ومتشققة ومليئة بالثقوب. لا أريد أن أكون إحدى هذه الأوساط التي تأخذ وتعطي، أريد أن أنغلق علي مرةً أخرى، أموتُ في نفسي وأميت كل شيء في عيني حتى لا أجد أهميةً في أي شيء، ولا حتى في هذه النبضات التي يطلقها قلبي.
أنا أيضًا -يا غريب- عالقةٌ بين إسيلا وكاربيديس. أريد أن أنام داخلي حتى الموت ، ويطالب داخلي باليقظة المليئة بالحياة. أنا في وضعٍ خطر. صدقني. أنا أتعذب.